الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن كثير: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)}قال ابن جرير: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تقديره: ثم قل- يا محمد- مخبرًا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب، بدلالة قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}قلت: وفي هذا نظر، وثُم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب هاهنا، كما قال الشاعر:وهاهنا لما أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وكثيرًا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة، كقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف: 12]، وقوله في أول هذه السورة: {قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الآية: 91]، وبعدها {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الآية [الأنعام: 92]، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48]، وقال تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].وقوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا} أي: آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تمامًا كاملا جامعا لجميع ما يحتاج إليه في شريعته، كما قال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [الأعراف: 145].وقوله: {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: جزاء على إحسانه في العمل، وقيامه بأوامرنا وطاعتنا، كقوله: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وكقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يقول: أحسن فيما أعطاه الله.وقال قتادة: من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة.واختار ابن جرير أن تقديره الكلام: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا} على إحسانه. فكأنه جعل الذي مصدرية، كما قيل في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] أي: كخوضهم وقال ابن رَوَاحة: وقال آخرون: الذي هاهنا بمعنى الذين.قال ابن جرير: وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرؤها: {تماما على الذين أحسنوا}.وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} قال: على المؤمنين والمحسنين، وكذا قال أبو عبيدة. قال البغوي: والمحسنون: الأنبياء والمؤمنون، يعني: أظهرنا فضله عليهم.قلت: كما قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144]، ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل، عليهما السلام لأدلة أخر.قال ابن جرير: وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يَعْمَر أنه كان يقرؤها. {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} رفعا، بتأويل: على الذي هو أحسن، ثم قال: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح.وقيل: معناه: تمامًا على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن الله إليه، حكاه ابن جرير، والبَغوي.ولا منافاة بينه وبين القول الأول، وبه جمع ابن جرير كما بيناه، ولله الحمد.وقوله: {وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} فيه مَدْحٌ لكتابه الذي أنزله الله عليه، {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} فيه الدعوة إلى اتباع القرآن ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة. اهـ. .قال أبو السعود: {ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب} كلامٌ مسوقٌ من جهته تعالى تقريرًا للوصية وتحقيقًا لها وتمهيدًا لما يعقُبه من ذكر القرآنِ المجيد كما ينبئ عنه تغييرُ الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيه النظامُ كأنه قيل بعد قوله تعالى: {ذلكم وصاكم بِهِ} بطريق الاستئنافِ تصديقًا له وتقريرًا لمضمونه: فعلنا ذلك ثم آتينا الخ، كما أن قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} معطوف على ما يدل عليه معنى {أَوَ لَمْ يَهْدِ} الخ، كأنه قيل: يغفُلون عن الهداية ونطبع الخ، وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم فتدبر.وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك: بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ، أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديمًا وحديثًا ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط {تَمَامًا} للكرامة والنعمة أي إتمامًا لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد {عَلَى الذي أَحْسَنَ} أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائنًا مَنْ كان، ويؤيده أنه قرئ على الذين أحسنوا وتمامًا على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو موسى عليه السلام أو تمامًا على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم، وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي على الذي هو أحسنُ دينٍ وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تمامًا أي تامًا كاملًا على أحسنَ ما يكون عليه الكتُب {وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شيء} وبيانًا مفصلًا لكل ما يُحتاج إليه في الدين وهو عطفٌ على تمامًا ونصبُهما إما على العلية أو على المصدرية كما أشير إليه أو على الحالية وكذا قوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} وضميرُ {لَعَلَّهُمْ} لبني إسرائيلَ المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى: {بِلَقَاء رَبّهِمْ} متعلقةٌ بقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ} قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما: كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب. اهـ..قال الألوسي: {ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب} كلام مسوق من جهته تعالى تقريرًا للوصية وتحقيقًا لها وتمهيدًا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه: {ذلكم وصاكم بِهِ} [الأنعام: 152] بطريق الاستئناف تصديقًا له وتقريرًا لمضمونه فعلنا ذلك {ثُمَّ ءاتَيْنَا} إلخ.وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس سره، وقيل: عطف على {ذلكم وصاكم بِهِ}.وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة كأنه قيل: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام، وقيل: عطف على {قُلْ} [الأنعام: 151] وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب.وعن أبي مسلم واستحسنه المغربي أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضًا من ذريته، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن.وثم كما قال الفراء للترتيب الإخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت (اليوم) أعجب.وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلابد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله: أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة، وبعضهم وجه الترتيب الإخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد.وقيل: إنه باعتبار توسط جملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] بين المتعاطفين.وقال بعضهم: إن {ثُمَّ} هنا بمعنى الواو، وقد جاء ذلك كثيرًا في الكتاب.{تَمَامًا} للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتمامًا، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرًا لقوله: {ءاتَيْنَا} من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل: أتممنا النعمة إتمامًا فهو كنباتًا في قوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17] وأن يكون حالًا من الكتاب أي تامًا {عَلَى الذي أَحْسَنَ} أي (على) من أحسن القيام به كائنًا من كان فالذي للجنس.ويؤيده قراءة عبد الله: {عَلَى الذين أَحْسَنُواْ} وقراءة الحسن {عَلَى المحسنين}.وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله:وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تمامًا على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم، وعن ابن زيد أن المراد تمامًا على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وظاهره أن {الذى} موصول حرفي، وقد قيل به في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} [التوبة: 69] وضمير {أَحْسَنُ} حينئذٍ لله تعالى، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها، وكلاهما خلاف الظاهر.وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه السلام، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيم عليه السلام.وقرأ يحيى بن يعمر {أَحْسَنُ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و{الذى} وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تمامًا على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تامًا كاملًا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن.{وَتَفْصِيلًا لّكُلّ شيء} أي بيانًا مفصلًا لكل ما يحتاج إليه في الدين، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافًا لمن زعم ذلك، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة يوسف (111) عليه السلام: {وَتَفْصِيلَ كُلّ شيء} ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضًا {وهدى} أي دلالة إلى الحق {وَرَحْمَةً} بالمكلفين.والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية والمصدرية والحالية، والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله.وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل.{لَعَلَّهُمْ} أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وإيتاء الكتاب، ولا يجوز عود الضمير على {الذى} بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه: {بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ} بل كان المناسب حينئذٍ أن يقال: لعلهم يرحمون مثلًا، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل، والمراد من اللقاء قيل الجزاء، وقيل: الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئًا.وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب. اهـ.
|